شهد البرلمان في مصر قصة صراع من أجل البزوغ والبقاء, وشهدت الانتخابات علي مدار العقود المتعاقبة منذ صدور اللائحة الأساسية لمجلس شوري النواب عام 1866 وحتي انتخابات مجلس الشعب المزمع عقدها في شهر نوفمبر الجاري, هجوما من أجل التعديلات, ومكافحة التزوير وانتخاب الكفاءات.
يمكن التعرف علي البدايات الأولي للحياة النيابية في المجلس العالي الذي أنشأه محمد علي باشا سنة 1824 الذي كان أول مجلس تمثيلي يختار معظم أعضائه بالانتخاب, وفي سنة 1829 أنشأ محمد علي مجلس المشورة وكان يتكون من 156 عضوا وجعل رئاسته لابنه إبراهيم باشا, وفي عام 1837 حل محمد علي هذا المجلس وأقام بدلا منه لجنة المشورة ولكن لا يمكن اعتبار أي من اللجنة أو المجلس نواة لنظام نيابي.
ولم تشهد مصر حراكا نيابيا قبل تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر, الذي كان يتطلع إلي جعل مصر قطعة من أوربا, ولذا أنشأ مجلس 'شوري النواب' عام 1866 لكسب تأييد كبار الأعيان ودعمهم السياسي وتحسين صورة مصر أمام المحافل الأوربية ويعد هذا المجلس هو النبتة الأولي لمجلس الشعب بهيئته الحالية, وفي 22 أكتوبر من العام نفسه عقد الخديوي إسماعيل مجلسا خصوصيا للتشاور بشأن تأسيس المجلس وتنظيمه, وانتهت المشاورات بوضع لائحة أخذت الكثير عن اللوائح البرلمانية التي كان معمولا بها في أوربا آنذاك, والتي اشترطت في المرشح لعضوية المجلس ألا يقل سنه عن خمسة وعشرين عاما, وألا يكون قد صدرت ضده أحكام جنائية بالإدانة أو بالإفلاس, وقصر حق اختيار أعضاء مجلس شوري النواب في الريف علي 'المشايخ الحائزين علي الأوصاف المعتبرة' وفي المدن يصير علي الأعيان, ولم يأت القانون التالي الخاص بالانتخاب الذي صدر في 25 مارس سنة 1882 إبان احتدام أحداث الثورة العرابية بموقف يساند حق الفقراء في الانتخاب, فإن نه وإن لم ينص القانون صراحة علي حرمان الفقراء من حق الانتخاب, إلا أنه وضع من القيود ما يؤدي إلي ذلك التحريم بالفعل, حيث جاء في المادتين الأولي والثانية من ذلك القانون أن حق الانتخاب لكل مصري من رعايا الحكومة المحلية سواء كان مولودا في مصر أو متوطنا أقام فيها مدة لا تنقص عن عشر سنوات علي أن يكون بالغا من العمر أحدي وعشرين سنة كاملة, وأن يدفع للحكومة من مال الضرائب أو الرسوم المقررة أيا كانت ما يبلغ خمسمائة قرش ميري في السنة, وهذا المبلغ كان يكافئ الضريبة التي تدفع لنحو سبعة أفدنة, بمعني آخر فقد سمح هذا القانون بحق الانتخاب لصغار الملاك, ولكنه لم يسمح به للمعدمين.
وننتقل للقانونين الصادرين في عهد الاحتلال (1882 و1913) فقد حرما حق الانتخاب علي من لهم بيوت للعب القمار أو الفحشاء أو الفقراء!! فقد اشترط هذان القانونان علي المندوب الذي يمارس حق الانتخاب أن يكون 'جاريا دفع مال مقرر علي عقارات أو أطيان في نفس المديرية قدره 5 آلاف قرش سنويا, وذلك منذ سنتين علي الأقل' وهذا المبلغ كان يدفع كضريبة عن 62 فدانا من الأراضي المتوسطة'.
والجدير بالذكر أن المادة الثالثة من القانون الصادر عام 1882 أعطت حق الانتخاب لثماني فئات حتي ولو لم يكن عليهم المبلغ المقرر وهذه الفئات كانت من العلماء أو المشهورين والقساوسة المسيحيين وحاخامات الإسرائيليين, والمدرسين والحائزين علي الشهادات من المدارس العليا, وأرباب الوظائف الملكية وضباط العسكرية والأفوكاتية والأجزجية والأطباء والمهندسين, ويبدو أن هذا الاستثناء كان مرتبطا بطبيعة القوي التي أصدرته وهي قوي الثورة العرابية, التي أرادت فيما يبدو أن تستقطب رجال الدين والمثقفين باعتبارهم من العناصر المؤثرة في ميدان العمل السياسي.
وتشير الكتابات التاريخية إلي أن أول معركة انتخابية حقيقية في التاريخ المصري الحديث هي المعركة التي دارت لتشكيل الجمعية التشريعية التي خاضها ناظر المعارف والحقانية الأسبق, وسعد باشا زغلول الذي رشح نفسه في ثلاث من الدوائر الأربع التي كانت تتكون منها في القاهرة, وتشير نفس هذه الكتابات إلي أن أول منشور انتخابي عرفته مصر كان المنشور الذي أصدره سعد خلال هذه المعركة; وهو الأمر الذي سجله اللورد كتشنر المعتمد البريطاني في مصر, وقد سجل ذلك في تقريره الذي أصدره عام 1913 والذي جاء فيه:
'خلال الأسابيع الثلاثة التي مرت بين اختيار المندوبين وانتخاب أعضاء الجمعية, سعي المرشحون إلي استمالة المندوبين إليهم بكل واسطة اعتمدوا عليها إظهار بيان خططهم'.
وقد أسفرت قوانين الانتخاب الأربعة عن حقيقة مؤداها أن تلك القوانين لم تصدر في عزلة عن المتغيرات العميقة التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة بالتحول من المجتمع الريفي إلي المجتمع الحضري, ويظهر ذلك جليا في المقارنة بين قانون عام 1866 وقانون عام 1883 الذي كان بمثابة انتكاسة للحياة النيابية في مصر, فبينما كان القانون الأول ينصب بالأساس علي العملية الانتخابية في المديريات في مصر والإسكندرية وودمياط فقط, فإن القانون الثاني شكل ثماني مدن وهي القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط وبورسعيد والإسماعيلية والسويس والعريش.
واستمر وضع الانتخابات قائما علي هذا المنوال حتي سقطت الفلسفة التي ظلت تحكم تلك القوانين خلال الحقب 1866- 1913 كما أوضح دكتور يونان لبيب رزق في تأريخه لقصة البرلمان المصري, وكانت تلك الفلسفة تقوم علي أن حق قيادة الأمة وتمثيلها لمن أسماهم الأستاذ أحمد لطفي السيد أصحاب المصالح الحقيقية وهم من أبناء العائلات من الأعيان أو كبار المزارعين وأبنائهم أو فئة المتعلمين, أما الفلسفة الجديدة فقد عبر عنها أعضاء لجنة الثلاثين أثناء عكوفهم علي وضع الدستور خلال عام 1923, وقامت تلك الفلسفة علي حق جميع المصريين في الانتخاب, وأنه ليس من سلطان أحد حرمانهم من هذا الحق, وهو الأمر الذي أكده واحد من أهم واضعي الدستور وهو 'عبدالعزيز باشا فهمي' الذي لقب بأب الدستور, الذي لم يجد صعوبة في أن يتساوي في حق الانتخاب مع أي فلاح أمي, وتأسيسا علي هذه الفلسفة صدر قانون الانتخاب الأول في تلك الحقبة في 30 أبريل عام 1923 الذي قرر حق الانتخاب لكل مصري بلغ إحدي وعشرين سنة ميلادية, وقد كان دستور 1923 بمثابة حجر الزاوية في البناء الدستوري حتي .1952
ودارت المعارك الانتخابية التي كانت أولها وأشهرها ما جري في النصف الثاني من عام 1925 التي أسماها الباحثون المعركة الزيورية نسبة إلي أحمد زيور رئيس الوزراء الذي أدار هذه المعركة, وكانت وزارة زيور قد تشكلت بعد إسقاط وزارة الشعب بعد الإنذار الشهير الذي قدمه الإنجليز لسعد زغلول في أعقاب حادثة اغتيال السير لي ستاك, ولم يمض وقت حتي تبين للشعب أن وزارة زيور مجرد لعبة للقصر مما دعاهم إلي أن يسموا زيور بأحمد الصغير دلالة علي تبعيته لأحمد الكبير 'الملك فؤاد', هذا خاصة أن الوزارة تألفت من شخصيات معروف عنها بعدائها للوفد مثل إسماعيل صدقي وزير الداخلية, ومن أحزاب تشكلت أساسا لهدم حزب الوفد الشعبي.. وهي حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد, وبهذه الحزمة المعادية للوفد جرت ثاني انتخابات في هذه الحقبة.. ورغم ذلك جاءت المفاجأة يوم 23 مارس عام 1925, ففي صبيحة ذلك اليوم عقد البرلمان الجديد أولي جلساته, واعتقدت حكومة زيور أنها صاحب الأغلبية فيه, غير أنها فوجئت بانتخاب 'زعيم الرعاع' سعد باشا زغلول كما كانوا يطلقون عليه لمناصرته كل فئات الشعب, مما أدي إلي حله في نفس يوم انعقاده, وكان هذا هو أقصر البرلمانات في تاريخ مصر, فلم يزد عمره علي ثماني ساعات!
فشكل ائتلاف من الوفد والأحرار الدستوريين ومارسا ضغوطا علي الوزارة, لم تؤد فقط إلي إلغاء قانون الانتخاب الذي أصدرته, بل وإجبارها علي إجراء الانتخابات علي أسس القانون الذي وضعه برلمان عام 1924, وكانت أول انتخابات تجري في مصر بنظام الاقتراع المباشر, تلك الانتخابات التي أطاحت بحكومة زيور بعد أن أطاحت بقانونه.
والمعركة الثانية التي عرفت بالانقلاب الدستوري الذي قام به إسماعيل صدقي باشا عام 1930, فصدر أمر الملك فؤاد في 22 أكتوبر من نفس العام بإيقاف دستور 1923 وحل مجلس النواب والشيوخ وإعلان دستور جديد.. ويعتبر بكل المقاييس نكسة في التطور الديموقراطي المصري.
واستمرت وزارات متعاقبة وتكونت جبهة من الأحزاب طالبت بإعادة دستور 1923 وبالفعل أصدر الملك فؤاد في 12 ديسمبر 1935 بعودة دستور 1923
وينتهي عهد الملك فؤاد وتتغير استراتيجية القصر في العهد الجديد, ويتمثل جانبا منها في اللجوء إلي التزييف الصريح للانتخابات فيما لجأت إليه حكومة محمد محمود عام 1938 وهي الانتخابات التي جرت في ظل كل القوانين التي حارب الوفد من أجل إصدارها, والتي لم يحصل الوفديون فيها إلا علي عدد من المقاعد يتجاوز قليلا أصبع اليدين, وجانبا آخر قام علي تفتيت الوفد الذي شهد خلال تلك الحقبة أكبر انشقاقين في تاريخه, الهيئة السعدية عام 1938, والكتلة الوفدية عام 1934, ولم تعد مع كل ذلك ثمة حاجة للدخول في معارك جديدة من أجل تعديل نظام الانتخاب أو تغييره.
كان علي البرلمان الأول القيام بمهمة لم تتمكن المجالس النيابية السابقة من القيام بها, تلك هي مهمة وضع التقاليد البرلمانية, وقد عجزت تلك المجالس عن القيام بهذه المهمة بحكم اختلافها عن البرلمان الجديد وهذا ما أكده سامي مهران في كتابه 'برلمان مصر'.
وتناولت الصحافة بالتفصيل قضية وضع التقاليد البرلمانية من جميع جوانبها ابتداء من خطاب العرش إلي آداب المناقشة ووصولا إلي أصول الخطابة وسلوك الخطباء.
ومن الأمور اللافتة والمثيرة للدهشة ما سجله المراقبون الأجانب أثناء تغطية جلسات مجلس النواب في الأسابيع الأولي من الدورة البرلمانية, فقد كان كل عضو يرغب في التحدث في كل جلسة والميل إلي الخطابة وكثرة المقاطعات.
وسجل هذه الظاهرة راءول كانيفه رئيس تحرير جريدة لاريفورم الفرنسية حين لاحظ أن من يراجع محاضر جلسات مجلس النواب يدهش لما يراه من شدة الرغبة في الكلام عند النواب, ففي كل لحظة تستوجب الحال دعوة هؤلاء المواطنين المتسرعين إلي مراعاة جدول أعمال الجلسة, وفي أحيان أخري كانوا يتركونهم يتكلمون حتي يتعبوا ويجسلوا معجبين بأنفسهم, وسجل نفس الظاهرة أيضا رئيس تحرير الليبرتيه, والمندوب السامي البريطاني في القاهرة في تقرير له عن المجلس بعد أسبوعين من بدء انعقاده.
كما شاركت الصحف المصرية وبنفس القدر من السخرية في تسجيل نفس الظاهرة وإن كانت أقل حدة من المراقبين الأجانب, فقد كتبت إحدي الصحف تقول:' تري أحيانا في مجلس النواب شخصا واحدا أو أشخاصا يطلبون الكلام مرارا وتكرارا في موضوع مطروح للبحث, فلا يعطون الكلام لأن الأفكار اتجهت إلي سواهم لأنهم جميعا طلبوا الكلام في وقت واحد...'.
ولوقف ثرثرة النواب, حضر سعد زغلول أكثر من 70% من عدد مرات انعقاد المجلس, لأن حضوره كان مدعاة للالتزام بقدر معقول من الانضباط لما يحظي به سعد من هيبة واحترام, وعلي جانب آخر تقرر تشكيل هيئة لمجموع النواب الوفديين تنسق أدوارهم داخل المجلس, وكل من كان يخرج عن قرارات هذه الهيئة كان يتعرض للعقوبة الحزبية.
من نوادر الانتخابات في عهد الملك فاروق, أن اللوريات التي تشحن مئات العمال, كانت من الظواهر البارزة في الانتخابات, حتي كان المرشحون يعتبرونها عاملا أساسيا لنجاحهم, ولم يكن المرشحون يعنون بالناخبين الأفندية الذين يأتون إلي مقر اللجنة فرادي, بقدر عنايتهم بأفواج العمال وذلك لأن الأولين يسهل علي أعضاء اللجنة معرفتهم. وأما العمال فلم تكن اللجنة تعرف شخصياتهم, لأنهم كانوا يصوتون بعد إبراز تذاكرهم التي كانت تدل علي هويتهم آنذاك, وقد ذكرت مجلة الشعلة في العدد رقم 342 حادثة ظريفة فبينما كان رئيس اللجنة رقم ثلاثة ببولاق يأخذ تذاكر الناخبين فوجئ بأن أحدهم لا يحمل تذكرته وإنما تذكرة شخص آخر, فلما سأله عن السبب أجابه 'أنه صديقه, وأنه مفيش فرق بينهم'.
وحدث أيضا في إحدي لجان الانتخابات في دائرة منيا القمح ونائبها كان الأستاذ فكري أباظة أن جاء شخص أبكم لا يجيد الكتابة ليعطي صوته, فلما سأله رئيس اللجنة تنتخب مين؟ أشار بإصبعه علي جانب رأسه, فأدرك الرئيس مغزي ما يريد أن يقول وهو فكري.. والجدير بالذكر أن قانون الانتخابات لم يرد فيه نص لمواجهة مثل هذه الحالة.
أما الأستاذ فكري أباظة فكان هو أول مرشح يدفع له الناخبون تأمينه, ورغم ذلك هزم فكتب تحت عنوان 'أنا فخور بالهزيمة'.
تراوحت الحياة السياسية خلال الفترة من 1923 إلي 1952 ما بين مد ديموقراطي وشعبي محدود وفترات انحسار بسبب سلطات الاحتلال والقصر, الأمر الذي أسفر عن حل البرلمان نحو عشر مرات وتردت الأوضاع الدستورية لأسباب داخلية وخارجية لتصل إلي الحالة التي كانت عليها البلاد قبيل 1952 لدرجة ان مصر تعاقبت عليها 40 وزارة وتعديل وزاري خلال تلك الفترة.
وقامت ثورة 1952 بإلغاء الدستور السابق وإعلان الجمهورية وحل الأحزاب وصدور دستور 1956 وشكل أول مجلس نيابي أطلق علية مجلس الأمة الذي ألغي في عام 1958 نظرا لقيام الوحدة بين مصر وسورية, إلي أن صدر عام 1971 الدستور الحالي في مصر وفي عام 1979 وافق الشعب علي استفتاء عام علي إنشاء مجلس الشوري وبناء علي ذلك عدل الدستور وأنشئ مجلس الشعب سنة .1980
يحفل تاريخ البرلمان بنظم نيابية تفاوتت فيها سلطات المجالس التشريعية والرقابة من فترة إلي أخري وأسهم أعضاؤها في تشكيل تاريخ مصر وإقرار مصيرها ليعكس في النهاية نضال الشعب المصري من أجل إقامة الحرية والديموقراطية.
يمكن التعرف علي البدايات الأولي للحياة النيابية في المجلس العالي الذي أنشأه محمد علي باشا سنة 1824 الذي كان أول مجلس تمثيلي يختار معظم أعضائه بالانتخاب, وفي سنة 1829 أنشأ محمد علي مجلس المشورة وكان يتكون من 156 عضوا وجعل رئاسته لابنه إبراهيم باشا, وفي عام 1837 حل محمد علي هذا المجلس وأقام بدلا منه لجنة المشورة ولكن لا يمكن اعتبار أي من اللجنة أو المجلس نواة لنظام نيابي.
ولم تشهد مصر حراكا نيابيا قبل تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر, الذي كان يتطلع إلي جعل مصر قطعة من أوربا, ولذا أنشأ مجلس 'شوري النواب' عام 1866 لكسب تأييد كبار الأعيان ودعمهم السياسي وتحسين صورة مصر أمام المحافل الأوربية ويعد هذا المجلس هو النبتة الأولي لمجلس الشعب بهيئته الحالية, وفي 22 أكتوبر من العام نفسه عقد الخديوي إسماعيل مجلسا خصوصيا للتشاور بشأن تأسيس المجلس وتنظيمه, وانتهت المشاورات بوضع لائحة أخذت الكثير عن اللوائح البرلمانية التي كان معمولا بها في أوربا آنذاك, والتي اشترطت في المرشح لعضوية المجلس ألا يقل سنه عن خمسة وعشرين عاما, وألا يكون قد صدرت ضده أحكام جنائية بالإدانة أو بالإفلاس, وقصر حق اختيار أعضاء مجلس شوري النواب في الريف علي 'المشايخ الحائزين علي الأوصاف المعتبرة' وفي المدن يصير علي الأعيان, ولم يأت القانون التالي الخاص بالانتخاب الذي صدر في 25 مارس سنة 1882 إبان احتدام أحداث الثورة العرابية بموقف يساند حق الفقراء في الانتخاب, فإن نه وإن لم ينص القانون صراحة علي حرمان الفقراء من حق الانتخاب, إلا أنه وضع من القيود ما يؤدي إلي ذلك التحريم بالفعل, حيث جاء في المادتين الأولي والثانية من ذلك القانون أن حق الانتخاب لكل مصري من رعايا الحكومة المحلية سواء كان مولودا في مصر أو متوطنا أقام فيها مدة لا تنقص عن عشر سنوات علي أن يكون بالغا من العمر أحدي وعشرين سنة كاملة, وأن يدفع للحكومة من مال الضرائب أو الرسوم المقررة أيا كانت ما يبلغ خمسمائة قرش ميري في السنة, وهذا المبلغ كان يكافئ الضريبة التي تدفع لنحو سبعة أفدنة, بمعني آخر فقد سمح هذا القانون بحق الانتخاب لصغار الملاك, ولكنه لم يسمح به للمعدمين.
وننتقل للقانونين الصادرين في عهد الاحتلال (1882 و1913) فقد حرما حق الانتخاب علي من لهم بيوت للعب القمار أو الفحشاء أو الفقراء!! فقد اشترط هذان القانونان علي المندوب الذي يمارس حق الانتخاب أن يكون 'جاريا دفع مال مقرر علي عقارات أو أطيان في نفس المديرية قدره 5 آلاف قرش سنويا, وذلك منذ سنتين علي الأقل' وهذا المبلغ كان يدفع كضريبة عن 62 فدانا من الأراضي المتوسطة'.
والجدير بالذكر أن المادة الثالثة من القانون الصادر عام 1882 أعطت حق الانتخاب لثماني فئات حتي ولو لم يكن عليهم المبلغ المقرر وهذه الفئات كانت من العلماء أو المشهورين والقساوسة المسيحيين وحاخامات الإسرائيليين, والمدرسين والحائزين علي الشهادات من المدارس العليا, وأرباب الوظائف الملكية وضباط العسكرية والأفوكاتية والأجزجية والأطباء والمهندسين, ويبدو أن هذا الاستثناء كان مرتبطا بطبيعة القوي التي أصدرته وهي قوي الثورة العرابية, التي أرادت فيما يبدو أن تستقطب رجال الدين والمثقفين باعتبارهم من العناصر المؤثرة في ميدان العمل السياسي.
وتشير الكتابات التاريخية إلي أن أول معركة انتخابية حقيقية في التاريخ المصري الحديث هي المعركة التي دارت لتشكيل الجمعية التشريعية التي خاضها ناظر المعارف والحقانية الأسبق, وسعد باشا زغلول الذي رشح نفسه في ثلاث من الدوائر الأربع التي كانت تتكون منها في القاهرة, وتشير نفس هذه الكتابات إلي أن أول منشور انتخابي عرفته مصر كان المنشور الذي أصدره سعد خلال هذه المعركة; وهو الأمر الذي سجله اللورد كتشنر المعتمد البريطاني في مصر, وقد سجل ذلك في تقريره الذي أصدره عام 1913 والذي جاء فيه:
'خلال الأسابيع الثلاثة التي مرت بين اختيار المندوبين وانتخاب أعضاء الجمعية, سعي المرشحون إلي استمالة المندوبين إليهم بكل واسطة اعتمدوا عليها إظهار بيان خططهم'.
وقد أسفرت قوانين الانتخاب الأربعة عن حقيقة مؤداها أن تلك القوانين لم تصدر في عزلة عن المتغيرات العميقة التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة بالتحول من المجتمع الريفي إلي المجتمع الحضري, ويظهر ذلك جليا في المقارنة بين قانون عام 1866 وقانون عام 1883 الذي كان بمثابة انتكاسة للحياة النيابية في مصر, فبينما كان القانون الأول ينصب بالأساس علي العملية الانتخابية في المديريات في مصر والإسكندرية وودمياط فقط, فإن القانون الثاني شكل ثماني مدن وهي القاهرة والإسكندرية ورشيد ودمياط وبورسعيد والإسماعيلية والسويس والعريش.
واستمر وضع الانتخابات قائما علي هذا المنوال حتي سقطت الفلسفة التي ظلت تحكم تلك القوانين خلال الحقب 1866- 1913 كما أوضح دكتور يونان لبيب رزق في تأريخه لقصة البرلمان المصري, وكانت تلك الفلسفة تقوم علي أن حق قيادة الأمة وتمثيلها لمن أسماهم الأستاذ أحمد لطفي السيد أصحاب المصالح الحقيقية وهم من أبناء العائلات من الأعيان أو كبار المزارعين وأبنائهم أو فئة المتعلمين, أما الفلسفة الجديدة فقد عبر عنها أعضاء لجنة الثلاثين أثناء عكوفهم علي وضع الدستور خلال عام 1923, وقامت تلك الفلسفة علي حق جميع المصريين في الانتخاب, وأنه ليس من سلطان أحد حرمانهم من هذا الحق, وهو الأمر الذي أكده واحد من أهم واضعي الدستور وهو 'عبدالعزيز باشا فهمي' الذي لقب بأب الدستور, الذي لم يجد صعوبة في أن يتساوي في حق الانتخاب مع أي فلاح أمي, وتأسيسا علي هذه الفلسفة صدر قانون الانتخاب الأول في تلك الحقبة في 30 أبريل عام 1923 الذي قرر حق الانتخاب لكل مصري بلغ إحدي وعشرين سنة ميلادية, وقد كان دستور 1923 بمثابة حجر الزاوية في البناء الدستوري حتي .1952
ودارت المعارك الانتخابية التي كانت أولها وأشهرها ما جري في النصف الثاني من عام 1925 التي أسماها الباحثون المعركة الزيورية نسبة إلي أحمد زيور رئيس الوزراء الذي أدار هذه المعركة, وكانت وزارة زيور قد تشكلت بعد إسقاط وزارة الشعب بعد الإنذار الشهير الذي قدمه الإنجليز لسعد زغلول في أعقاب حادثة اغتيال السير لي ستاك, ولم يمض وقت حتي تبين للشعب أن وزارة زيور مجرد لعبة للقصر مما دعاهم إلي أن يسموا زيور بأحمد الصغير دلالة علي تبعيته لأحمد الكبير 'الملك فؤاد', هذا خاصة أن الوزارة تألفت من شخصيات معروف عنها بعدائها للوفد مثل إسماعيل صدقي وزير الداخلية, ومن أحزاب تشكلت أساسا لهدم حزب الوفد الشعبي.. وهي حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد, وبهذه الحزمة المعادية للوفد جرت ثاني انتخابات في هذه الحقبة.. ورغم ذلك جاءت المفاجأة يوم 23 مارس عام 1925, ففي صبيحة ذلك اليوم عقد البرلمان الجديد أولي جلساته, واعتقدت حكومة زيور أنها صاحب الأغلبية فيه, غير أنها فوجئت بانتخاب 'زعيم الرعاع' سعد باشا زغلول كما كانوا يطلقون عليه لمناصرته كل فئات الشعب, مما أدي إلي حله في نفس يوم انعقاده, وكان هذا هو أقصر البرلمانات في تاريخ مصر, فلم يزد عمره علي ثماني ساعات!
فشكل ائتلاف من الوفد والأحرار الدستوريين ومارسا ضغوطا علي الوزارة, لم تؤد فقط إلي إلغاء قانون الانتخاب الذي أصدرته, بل وإجبارها علي إجراء الانتخابات علي أسس القانون الذي وضعه برلمان عام 1924, وكانت أول انتخابات تجري في مصر بنظام الاقتراع المباشر, تلك الانتخابات التي أطاحت بحكومة زيور بعد أن أطاحت بقانونه.
والمعركة الثانية التي عرفت بالانقلاب الدستوري الذي قام به إسماعيل صدقي باشا عام 1930, فصدر أمر الملك فؤاد في 22 أكتوبر من نفس العام بإيقاف دستور 1923 وحل مجلس النواب والشيوخ وإعلان دستور جديد.. ويعتبر بكل المقاييس نكسة في التطور الديموقراطي المصري.
واستمرت وزارات متعاقبة وتكونت جبهة من الأحزاب طالبت بإعادة دستور 1923 وبالفعل أصدر الملك فؤاد في 12 ديسمبر 1935 بعودة دستور 1923
وينتهي عهد الملك فؤاد وتتغير استراتيجية القصر في العهد الجديد, ويتمثل جانبا منها في اللجوء إلي التزييف الصريح للانتخابات فيما لجأت إليه حكومة محمد محمود عام 1938 وهي الانتخابات التي جرت في ظل كل القوانين التي حارب الوفد من أجل إصدارها, والتي لم يحصل الوفديون فيها إلا علي عدد من المقاعد يتجاوز قليلا أصبع اليدين, وجانبا آخر قام علي تفتيت الوفد الذي شهد خلال تلك الحقبة أكبر انشقاقين في تاريخه, الهيئة السعدية عام 1938, والكتلة الوفدية عام 1934, ولم تعد مع كل ذلك ثمة حاجة للدخول في معارك جديدة من أجل تعديل نظام الانتخاب أو تغييره.
كان علي البرلمان الأول القيام بمهمة لم تتمكن المجالس النيابية السابقة من القيام بها, تلك هي مهمة وضع التقاليد البرلمانية, وقد عجزت تلك المجالس عن القيام بهذه المهمة بحكم اختلافها عن البرلمان الجديد وهذا ما أكده سامي مهران في كتابه 'برلمان مصر'.
وتناولت الصحافة بالتفصيل قضية وضع التقاليد البرلمانية من جميع جوانبها ابتداء من خطاب العرش إلي آداب المناقشة ووصولا إلي أصول الخطابة وسلوك الخطباء.
ومن الأمور اللافتة والمثيرة للدهشة ما سجله المراقبون الأجانب أثناء تغطية جلسات مجلس النواب في الأسابيع الأولي من الدورة البرلمانية, فقد كان كل عضو يرغب في التحدث في كل جلسة والميل إلي الخطابة وكثرة المقاطعات.
وسجل هذه الظاهرة راءول كانيفه رئيس تحرير جريدة لاريفورم الفرنسية حين لاحظ أن من يراجع محاضر جلسات مجلس النواب يدهش لما يراه من شدة الرغبة في الكلام عند النواب, ففي كل لحظة تستوجب الحال دعوة هؤلاء المواطنين المتسرعين إلي مراعاة جدول أعمال الجلسة, وفي أحيان أخري كانوا يتركونهم يتكلمون حتي يتعبوا ويجسلوا معجبين بأنفسهم, وسجل نفس الظاهرة أيضا رئيس تحرير الليبرتيه, والمندوب السامي البريطاني في القاهرة في تقرير له عن المجلس بعد أسبوعين من بدء انعقاده.
كما شاركت الصحف المصرية وبنفس القدر من السخرية في تسجيل نفس الظاهرة وإن كانت أقل حدة من المراقبين الأجانب, فقد كتبت إحدي الصحف تقول:' تري أحيانا في مجلس النواب شخصا واحدا أو أشخاصا يطلبون الكلام مرارا وتكرارا في موضوع مطروح للبحث, فلا يعطون الكلام لأن الأفكار اتجهت إلي سواهم لأنهم جميعا طلبوا الكلام في وقت واحد...'.
ولوقف ثرثرة النواب, حضر سعد زغلول أكثر من 70% من عدد مرات انعقاد المجلس, لأن حضوره كان مدعاة للالتزام بقدر معقول من الانضباط لما يحظي به سعد من هيبة واحترام, وعلي جانب آخر تقرر تشكيل هيئة لمجموع النواب الوفديين تنسق أدوارهم داخل المجلس, وكل من كان يخرج عن قرارات هذه الهيئة كان يتعرض للعقوبة الحزبية.
من نوادر الانتخابات في عهد الملك فاروق, أن اللوريات التي تشحن مئات العمال, كانت من الظواهر البارزة في الانتخابات, حتي كان المرشحون يعتبرونها عاملا أساسيا لنجاحهم, ولم يكن المرشحون يعنون بالناخبين الأفندية الذين يأتون إلي مقر اللجنة فرادي, بقدر عنايتهم بأفواج العمال وذلك لأن الأولين يسهل علي أعضاء اللجنة معرفتهم. وأما العمال فلم تكن اللجنة تعرف شخصياتهم, لأنهم كانوا يصوتون بعد إبراز تذاكرهم التي كانت تدل علي هويتهم آنذاك, وقد ذكرت مجلة الشعلة في العدد رقم 342 حادثة ظريفة فبينما كان رئيس اللجنة رقم ثلاثة ببولاق يأخذ تذاكر الناخبين فوجئ بأن أحدهم لا يحمل تذكرته وإنما تذكرة شخص آخر, فلما سأله عن السبب أجابه 'أنه صديقه, وأنه مفيش فرق بينهم'.
وحدث أيضا في إحدي لجان الانتخابات في دائرة منيا القمح ونائبها كان الأستاذ فكري أباظة أن جاء شخص أبكم لا يجيد الكتابة ليعطي صوته, فلما سأله رئيس اللجنة تنتخب مين؟ أشار بإصبعه علي جانب رأسه, فأدرك الرئيس مغزي ما يريد أن يقول وهو فكري.. والجدير بالذكر أن قانون الانتخابات لم يرد فيه نص لمواجهة مثل هذه الحالة.
أما الأستاذ فكري أباظة فكان هو أول مرشح يدفع له الناخبون تأمينه, ورغم ذلك هزم فكتب تحت عنوان 'أنا فخور بالهزيمة'.
تراوحت الحياة السياسية خلال الفترة من 1923 إلي 1952 ما بين مد ديموقراطي وشعبي محدود وفترات انحسار بسبب سلطات الاحتلال والقصر, الأمر الذي أسفر عن حل البرلمان نحو عشر مرات وتردت الأوضاع الدستورية لأسباب داخلية وخارجية لتصل إلي الحالة التي كانت عليها البلاد قبيل 1952 لدرجة ان مصر تعاقبت عليها 40 وزارة وتعديل وزاري خلال تلك الفترة.
وقامت ثورة 1952 بإلغاء الدستور السابق وإعلان الجمهورية وحل الأحزاب وصدور دستور 1956 وشكل أول مجلس نيابي أطلق علية مجلس الأمة الذي ألغي في عام 1958 نظرا لقيام الوحدة بين مصر وسورية, إلي أن صدر عام 1971 الدستور الحالي في مصر وفي عام 1979 وافق الشعب علي استفتاء عام علي إنشاء مجلس الشوري وبناء علي ذلك عدل الدستور وأنشئ مجلس الشعب سنة .1980
يحفل تاريخ البرلمان بنظم نيابية تفاوتت فيها سلطات المجالس التشريعية والرقابة من فترة إلي أخري وأسهم أعضاؤها في تشكيل تاريخ مصر وإقرار مصيرها ليعكس في النهاية نضال الشعب المصري من أجل إقامة الحرية والديموقراطية.